
يبدو أن نوعًا جديدًا من السلع يطرح نفسه بقوة في الأسواق في هذا العصر وهو يخضع للقاعدة المعروفة العرض والطلب. سلعتنا هذه لن تجدها بسهولة. هي سلعة بالنسبة للمتاجرين بها أغلى من أن تحتل الواجهات أو الرفوف. سلعتنا هذه يحرص عليها أصحابها كحرصهم على حيواتهم أو أشد. هي سلعة تصبح رائجة في زمن فساد الأمم تجارها لا يحرمون بل يستحلون. هؤلاء هم تجار القضايا. وعصرنا الراهن يعج بالقضايا، ولو فرضنا أن القضايا نفدت لبرز إليك عباقرة يصنعون المصائب ويستحلبون منها القضايا. وكما هو معلوم فلا وجود لقضايا دون ضحايا، وهنا يبدأ البزنس

هل خطرت قضية معينة على بالكم؟
يُحكى أن أحد كبار المتمولين يمتلك مبنى كبيرًا في إحدى القرى وهو قيدُ الإنشاء، وعند تدفق اللاجئين طلَبَتْ منه إحدى المنظمات الأممية أن يُؤوي في هذا المبنى عددًا منهم. وبما أنه قيد الإنشاء، فينقصه الكثير من الأمور الأساسية وعلى رأسها استجرار مياه صالحة للاستخدام. فتم الاتفاق مع منظمة على استجرار المياه على نفقتها وفي الوقت نفسه كان صاحبنا يفاوض منظمة أخرى لتدفع له كلفة استجرار المياه. وتم له الأمر من المنظمتين بأن استجر المياه إلى مبناه مجانًا وقبض كلفة ذلك العمل دون أن ينفقَ من المبلغ قرشًا واحدًا من المنظمة الأخرى. ومنذ أكثر من عشر سنوات ما زال تاجرُ القضايا هذا يقبِض أجرة مبناه الشاهق مبتزًا المنظمات الأممية للإبقاء على اللاجئين فيه.
هالني منظر المبنى وهالتني مرافِقُه عندما زرته في وفد آخر من وفود تجار القضايا، الذين يزورون العوائل فيه بشكل يومي. مبنى ما زال دون طلاء أو بلاط أو إضاءة. درجه وأروقته في ظلام دامس، تُستغل للأعمال المشينة بين من فقد مراقبة الله من قاطنيه، قضبان الحديد ناتئة هنا وهناك لو دخلت في جسد أحدهم لآذته ومزقته فكيف والأولاد يلعبون بطيشهم وبراءتهم في براحات ورشة بناء غير مكتمل؟
هذا غيض من فيض، فالمآسي الكامنة خلف جُدُر هذا المبنى أكبرُ بكثير من أن أختصرها في سطور أو أتكلم عنها بين يدي أحطِّ التجار.
مرة أخرى، هذا غيض من فيض، وللحديث عن تجار القضايا بقية، فأراذل القوم تسربلوا خدمةَ الإنسانية وتحصيلَ الحقوق، والدفاع عن المستضعفين ومناصرة الفئات الهشة وما شاكل ذلك من شعارات خاوية. لكن أرذل هؤلاء التجار من اتخذ الدين بضاعته ومشى باسم الله على درب إبليس. فلهؤلاء أيضًا حِصة غيرُ قليلة.
قبل أن أختتم مقالتي اليوم أقول، كل هذا الإهمال بحق اللاجئين يتم على مرأى ومسمع من المنظمات الأممية دون أن يرف لها جفن، لأن الهدف الحقيقي مما يجري في شآمنا، هو أكبر عملية تغييرٍ ديموغرافيٍ أفقيٍ وعموديٍ في عصرنا، حيث يتِم اقتلاع المكوِّن الأصيل وزرع أغراب في مكانه، وقد تم استيراد قُطعانهم من دول متعددة.
أتذكرون بداياتِ القضية الفلسطينية، بعد اتهام الفلسطينيين ببيع أراضيهم ليهود؟ ما زال هذا الاتهام راسخًا في التاريخ الشفَوي لدينا، واحدة من أبشع المغالطات، لقد تم سلخ الفلسطينيين من فلسطين وتشتيتُهم في أرجاء المعمورة، وزرعُ الغرقد البشري مكانهم. وكذلك يحصل اليوم، يسلخ السوريون من الشآم ويزرع غرقدٌ بشري أشد على منطقتنا شبيه بيهود.
فعلا من أسوأ ما يستغل باسم الانسانية والعدالة والرحمة