سوق العمل الجديد: مهارات وكفايات عملية، وانحسار لدور الشهادات الجامعية

كشفت جائحة كورونا عن مشاكل متجذرة في واقع مجتمعاتنا العربية، والتي تجمعت نتيجة تراكمات لسياسات إقتصادية تعتمد بشكل عام على قطاعات خدماتية استهلاكية، وغياب خطط التنمية والتطوير وتعزيز الإمكانات، واستخدام سيء لموارد الخام الطبيعية في ظل غياب للعدالة التوزيعية… وترافق ذلك مع نمو في عدد السكان، وبلوغ العدد الأكبر منهم سن العمل، وركودٍ في المشاركة في القوى العاملة، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة لتصل إلى أعلى مستوياتها. فسياسة الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي، الذي اعتمد عالميا وفي الكثير من الدول العربية والأجنبية، كشف عن هشاشة في النظم الاقتصادية لمعظم الدول العربية، فغياب الخطط الاقتصادية والسياسات المعتمدة من قبل الحكومات أدى إلى تحويل الشعوب العربية إلى شعوب استهلاكية تعيش على ما تنتجه يوميًا، وتستهلكه، بدون أن تكون مرتبطة بنظام اقتصادي يؤمن لها حاجاتها في ظل الأوضاع الطارئة كجائحة كورونا مثلا، خاصة وأن الشركات والمؤسسات الاقتصادية قد لجأت الى تقليص عدد العاملين، ففقد العديد من الشباب وأرباب البيوت وظائفهم، كما تطلبت نوعية الحياة الجديدة التي فرضتها تدابير الوقاية من كورونا إلى ظهور ما يسمى “وظائف تؤدى عن بعد”، وكذلك “التعليم عن بعد”. 

وقد قامت دراسات عديدة لتقييم الوضع الوظيفي، وحاجات سوق العمل، والفرص الجديدة والمستحدثة، بالإضافة إلى المهارات والكفاءات الموجودة، وتلك المطلوبة لتتناسب مع متطلبات سوق العمل الجديد. ويمكننا الكلام في هذا الصدد عن ثورة وظيفية جديدة طالت القطاع العملي عالميًا وليس في منطقة دون أخرى. ومن أهم تلك الدراسات ما قامت به مؤسسة “هارفارد بيزنس ريفيو” ( Harvard Business Review ) وشركة “إمسي بيرنينج جلاس” (Burning Glass Technologies) حول سوق العمل، بحيث وجدت أن الكثير من الشركات الاقتصادية بدأت تتغاضى عن الشهادات والدرجات العلمية من أجل الحصول على موظفين أصحاب المهارة والموهبة، وبدأت تعلن عن حاجاتها لمهارات بعينها للفوز بالوظيفة، مع الإشارة أن أغلب تلك الوظائف تعتمد على الحوسبة والآلات وما يتعلق بالتكنولوجيا الرقمية.

وكانت الدراسة التي قامت بها شركة Burning Glass Technologies باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لمطابقة السير الذاتية مع الوظائف الشاغرة، وقدمت نتيجة لتلك الدراسة خريطة شاملة لسوق العمل، كما طورت نماذج جديدة للاستقصاء في قطاعات السوق المحددة، والمهارات المتوفرة والمطلوبة، والمناطق الجغرافية، والتخصصات الجامعية الموجودة والمطلوبة، والمسارات الوظيفية. والملاحظ من تلك الدراسة هو مسؤولية التكنولوجيا عن التغيير الكبير الحاصل في سوق العمل، والذي يفترض نموا سريعًا في القطاع الوظيفي والاقتصادي.

وقد فحصت الدراسة أكثر من 95 مليون وظيفة شاغرة عبر الانترنت على مدار ثلاث سنوات بهدف تحديد الوظائف الأسرع نموا، والمهارات الأسرع نموا في سوق العمل في الولايات المتحدة الأميركية. وقد قسمت الوظائف التي تم تحليلها إلى خمس فئات:

الوظائف الرئيسية: وهي الوظائف التي يكون الطلب عليها مرتفعًا، وهي لا تزال بحالة نمو متواصل (تصل الزيادة الى 20%في التعيينات سنويا)

الوظائف السريعة النمو، وعليها طلب مرتفع ولكن نموها يكون أسرع بكثير(أكثر من 20% سنويا).

الوظائف عالية النمو وهي الوظائف التي يقل فيها عدد الوظائف الشاغرة عن 10000 وظيفة سنويا، لكن نموها مرتفع (أكثر من 40%).

الوظائف ذات النمو المتواضع تظهر طلبًا أقل عليها، لأن تأثيرها محدود.

الوظائف المتراجعة وهي الوظائف التي يتقلص الطلب عليها.

وتقسم المهارات الوظيفية إلى فئات متشابهة، لكنها لم تكن هي نفسها بمعزل عن التغيرات الكبيرة، حيث تكون المهارة مطلوبة في العدد الأكبر من الوظائف وليس الشهادة الجامعية. فعلى سبيل المثال، في عام 2018 كان عدد الوظائف 14 ضعف في عدد الوظائف التي تتطلب مهارات الحوسبة السحابية مقارنة بالوظائف المتعلقة بهندسة الحوسبة السحابية، ويمتد الطلب على هذه المهارات إلى مهن أخرى كهندسة البرمجيات وعلم البيانات وإدارة الإنتاج وإدارة تطوير الأعمال وغيرها.

هذه النتائج التي خلصت إليها الدراسة في مجتمع متطور كالولايات المتحدة الأميركية، تنسحب على كل دول العالم لأن الاقتصاد والعلم هو القاسم المشترك الذي يجمع حياة البشر عمليًا. وعليه، فإننا نستشرف مستقبلًا في أوطاننا مشابه لذلك الواقع الأميركي، وهو دخل بالفعل في مجرى التحولات الاقتصادية العالمية من بعد جائحة كورونا، والمترافق مع الثورات الربيعية، والتي كشفت عن حجم التخلف المعاش بمقابل ازدياد حجم التطلعات والآمال.

من هنا لا بد من حسن توظيف نتائج الدراسات والإحصاءات والبيانات، في رسم خارطة طريق لشبابنا وأفراد مجتمعاتنا، وندخل عصر ما بعد الحداثة بجدارة. وهنا يأتي دور وعمل منظمات المجتمع المدني والمؤسسات المعنية بتطوير مهارات الفئات الشبابية وتعوض ما فاتهم أيام الحجر والأزمات.